رنا حايك
ينشغل لبنان منذ أسبوع في استقبال الشهداء والتّعرف على هويّاتهم. بعض الأجساد تحرّرت من توابيتها لتستريح في تراب الوطن، وبعضها لا يزال يتخذ من التابوت وطناً في انتظار وصول عائلة أو انتهاء ترتيبات حزبية تشيّعها وسط احتفاء يليق بشهادتها.
بين هذه الجثامين 17 شهيداً من جنسيات عربية عادت رفاتهم. أصبحوا رقماً. ورقم غير دقيق، فهل الأردني أردني أم فلسطيني؟ بالتأكيد لا يهمّهم ذلك، فهم حين مضوا كانوا جميعاً فلسطينيين. كانوا جميعاً عرباً توقّعوا أن يعودوا وسط زغاريد استعادة أرض فلسطين لا أن يعودوا أجساداً ممزقة إلى وطن عربي ممزّق بدوره بين ماضٍ نضالي وحاضر ملتبس القيم والاتجاهات.
اليوم يصل رفات الشهداء العرب إلى سوريا. بعضهم ستتسلّمه سفارة دولته هناك والبعض الآخر لم يتضح مصيره بعد، وسط صمت رسمي تباينت الآراء في تفسيره.
في اتصال مع «الأخبار»، رأى مصدر دبلوماسي «من الطبيعي أن يستغرق الأمر بعض الوقت. فالحكومات، وبالتبعية سفاراتها، تحتاج إلى وقت لتعلن موقفها قبل تسلّم أي جثمان، وهذا التأخير لا يعبّر بالضرورة عن موقف سياسي، بل هو مرتبط بقضايا لوجستية كإجراء فحوص الحمض النووي للتّأكد من هوية الشهيد». ولكن، ماذا لو كانت عملية التعرّف إلى الهوية قد تمّت؟
في هذه الحالة، يصبح التساؤل «مشروعاً».
هذا التساؤل الذي طرحه البعض استهجاناً، صاغه البعض الآخر اتهامات واضحة وصريحة. من هؤلاء عبد الله الدنان، مسؤول الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين في مخيم عين الحلوة، فبعدما استثنى ممثلي السفارة الليبية في لبنان الذين بادروا بالاتصال بمسؤولي الجبهة للاستفسار عن جثامين شهدائهم والتنسيق لتحديد مواعيد تسلّمهم من أجل ترتيب جنازات تليق بهم، عبّر عن شدة استيائه من الإجراءات التي استغرقت وقتاً طويلاً في السفارتين التونسية والأردنية. «فقد أتى ممثلون عن السفارتين وأخذوا كل المعلومات المتوافرة عن جثامين شهدائهم، لكنهم رفضوا تسلّم الرفات قبل أن تصلهم التعليمات بذلك من حكومتيهما». عمدت الجبهة إلى دفن الجثامين في شاتيلا بانتظار قرار الحكومات التي تتذرّع بالإجراءات الإدارية لتبرّر تلكؤاً سببه سياسي على حد اعتقاد الدنان: «هذه المواقف لها علاقة بالسياسة العامة لهذه الحكومات التي تشكل إقامة علاقات وثيقة مع الكيان الصهيوني هاجسها الأول، واستقبال جثامين هؤلاء الشهداء سيحرجها لأنه سيحرّك الشارع».
لكن الدّنان يتعهّد «بمتابعة الضغط على السفارات، وبإعلان بيان رسمي للجبهة تعليقاً على مواقف هذه الحكومات، وكذلك بتحفيز القوى السياسية المعارضة فيها على التحرك والضغط».
يخالف رفيق الدنان، مسؤول الجبهة في بيروت، سميح أبو رامي، رأيه، إذ يؤكد تجاوب السفارات، فالسفارة المغربية اتصلت به وأبلغته «وصول عائلة شهيدها مع ممثلين عن القوى اليسارية المغربية قريباً لتسلّم رفات الشهيد المغربي، بينما سيتم نقل جثامين الشهداء العرب الباقين جميعهم اليوم إلى سوريا».
ووسط تضارب الآراء، تعذّر الوصول إلى الخبر اليقين لدى السفارات المذكورة: فالوزير المفوّض محمد درويش، الذي يحل محل المسؤول الإعلامي في السفارة المغربية يؤكد عدم تسلّم السفارة جثمان شهيدها في انتظار «قرار من الرباط بالموافقة على التسلّم». وبعد سؤاله عما إذا كان سبب التأخير سياسياً، يعتذر عن الإجابة ويحيل الأمر إلى نائب السفير. إلا أن نائب السفير يغيب عن مكتبه طوال النهار، فيتعذّر التحدث إليه.
أما السفارة التونسية، فالقائم بأعمالها، محمد مسعود، يشارك طوال النهار في مؤتمر. ومسؤولة الإعلام في السفارة الأردنية، رغد السقا، تتعهد بمعاودة الاتصال ولا تفعل حتى كتابة هذا الخبر.
إذاً يغيب الحسم الرسمي، ويظل الموقف على التباس تغذّي التحركات الشعبية من ضبابيته. ففي الأردن، سخط عام يسيطر على الشارع، والقوى الشعبية والنقابية والحزبية تستعدّ للتعبير عن عدم رضاها على أداء حكومتها في ملفَّي الأسرى والشهداء بتحرّك شعبي «ربما يبدأ اعتباراً من اليوم» كما يؤكد رئيس لجنة أهالي الأسرى صالح العجلوني لـ«الأخبار». فأخوه سلطان، عميد الأسرى الأردنيين، تحرّر من المعتقل الإسرائيلي لكنه لا يزال أسير الحكومة الأردنية منذ أن تسلّمته قبل عام ونصف، لم تستجب الحكومة خلالها لمطالب اللجنة في إطلاق سراح الأسرى. أما في ما يتعلق بجثامين الشهداء الأردنيين، فالحكومة تلتزم صمتاً يستنكره العجلوني: «أستغرب عدم إقدام الحكومة على المبادرة بطلب تسلّم الجثامين. وهو موقف يندرج في إطار سلوكية عامة تعامل الدولة بها المواطن الأردني، تقدّم فيها حساباتها السياسية على الحسابات الوطنية».
وفي سياق محاولة استقاء المواقف الرسمية ورصد المؤشرات، كان أمس «أول الغيث» حين فضّت سفارة الكويت الالتباس وتسلّمت عائلة الشهيد الكويتي رفاته تمهيداً لنقله إلى الكويت، بحضور القنصل الكويتي الذي أكّد «أن هذه الشهادة هي تأكيد على وحدة الدم العربي والفلسطيني واللبناني».
أما في المقلب اللبناني، فقد استمرّت التشييعات طوال يوم أمس في مختلف المناطق اللبنانية. وشيّعت «الجبهة الديموقراطية لتحرير فلسطين» وأهالي بلدة بر الياس الشهيد عاصم بدر موسى في موكب شعبي كبير، تقدمه قادة من مختلف الفصائل الفلسطينية. كما شيعت الجبهة الشهيد عماد شحيبر، بطل عملية بيت ياحون عام 1994 في مخيم برج البراجنة. وشيعت «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين» وأهالي مخيم البرج الشمالي جثمان الشهيد فادي أحمد طعمة.
ملاحظة: أجمل عبارة في المقال هي " أما السفارة التونسية، فالقائم بأعمالها، محمد مسعود، يشارك طوال النهار في مؤتمر" حيث تذكرني في كلمة " المسؤول في إجتماع، أرجع غدوة"