فتحي بن الحاج يحيى
وأنا تلميذٌ، كانت عندي مشكلة في تمييزِ الظَّاءِ من الضَّادِ كُلّما رسمتُ كلماتٍ تحمل لسوء حظّي أحد هذين الحرفَيْن.
كان معلّمي يحبّ إنْشَاءاتي ولا يَفْهَمُ سُوءَ تَصرُّفي في العصا الفاصلة بين هذين الحرفين المتشابهين نُطقًا ورَسْمًا. وبدا لي، في تلك السنّ، أنّ معلّمي يعتقد جازما أنّ العربية تمنح الذي يُحسن استعمالها نوعًا من القوّة، والاعتداد، والثّقة بالنّفس، لا مجال بعدها سوى إحكام التّعامل مع العصا كما يُحْكِمُها فُتُوَّةٌ من أصل صَعِيدِيٍّ في حارةٍ شعبية من حارات القاهرة، أو كما يحملها جنرال عربيّ رمزا للبقاء بعد حرب خاسرة.
وكان لا يَفهم أن لا أُخطئَ المرمى في نَصْبِ اسم "إنّ" وأخواتِها حتّى وإن جاء في صيغة المثنّى، وأن لا أتعثّر كثيرا في رسم الهمزة رغم عدم امتلاكي الشّامل لها إلى اليوم، أو أن أصيب في كتابة الأعداد حرفيّا بحسب موقعها في الجملة، مؤنثا كانت أم مذكّرا، حتّى وإن تجاوزت العشرة، على صعوبة القاعدة فيها... ثمّ أجيءُ إلى "الضّلالة" فأُحَمِّلُها "ظاءً" تُشَالُ بما يجعل الضّغط في شرايين معلّمي ضربا من ضراوة الغضب، فيرتعد لمجرّد التّفكير بأنّ هذا الأمر لو حصل زمن نسخ القرآن على يد عثمان لاختلط المعنى أو انقلب الشّيءُ إلى ضدّه، ووقعت الطّامة الكبرى لسهو لغويٍّ رسميٍّ بسيطٍ لا نُقيم نحن الصّغار له وزنًا، وفيه عند الكبار ثِقَلُ الفاجعة..
فماذا لَوْ سَهَا أحدهم عن رفع العصا وهو يكتب كلمة "في ظِلال القرآن" ؟
ولم نكن نفهم سبب تصرّف معلّم الفرنسية معنا بشكل مُغَايِرٍ أمام عثراتنا في الرّسم والصّرف والنّحو، على كثرتها. فلا نشعر معه بتبعات "بَهَامَتِنَا" على تشويشٍ في دين عيسى، بينما كان معلّم العربية يُشعرنا يوميّا بأنّ ارتكاب خطإ في العربية هو ليس جناية على اللّغة فحسب، بل إساءة، وإن كانت غير مقصودة، إلى دين محمّد وكلام اللّه المنزّل. وفي بعض الأمر خطيئةٌ كنّا نشعر بخطورتها ولا نَفْقَهُ معناها ولكنّها تظلّ ساكنةً في أعماق وجداننا.
هذه العقدة بالذّنب التي ركبتنا منذ يوم ركبنا متون اللّغة العربيّة ظلّت تلازمنا في حياتنا، وبقينا نتحايل في التّعامل معها كلّ حسب ما أُتيح له من إمكانيّات ومسارات في الحياة. فمنّا من هجرها تماما إلى الفرنسيّة ليتخلّص من ذنوب لم يكن يدري أنّها ستتحوّل مع العمر عقدة ذنب في هُويّة ضائعة وانْبِتَاتٍ ثقافيٍّ يَقرأ عنهما ويفهمها بالفرنسية ويدفع فاتورتهما بالعربيّة. ومنّا من اختار، أو هكذا سرت به الأمور، اللّغة القُدُس وحدها لا شريك لها، فتعقدّت على ذهنه أمورُ دُنْيَا تنطق في حداثتها بغير لغة الضّاد، فانكفأ على قرآنه يردّده للمرّة الألف، ويبحث بين سطوره، وفي حواشي أحاديثه، عن اختزالٍ في لغة العرب لجميع ما فات العرب منذ سقوط بغداد والأندلس. أمّا البقيّة الباقية فقد ظلّت تتأرجح، ممزّقة أحيانا ومتراوحة أخرى، بين لُغتَيْن، وحضارتَيْن، وزَمَنَيْنِ، وضَفَّتَيْن، وشخصِيَّتَيْن. فكسبت ما كسبت من إطلالةٍ على الآخر، وجَنَتْ ما جنت من تشرّد داخل بيت لم يعد يأويها في ترتيبه القديم، ولا هي تجد سبيلا إلى إعادة ترتيبه بما يمنح لفظة الهويّة معنىً آخرَ سوى أنّها إلى الهاوية أقرب.
كادت السنة الدراسية تشارف على النّهاية ومعلّمنا يعيد إلينا فروض الامتحان ويوزّع معها أشباهَ الأعداد المتراوحة بين نصف الواحد والسَّبْعَة في سلّم يرتقي إلى العشرين. وكان يُرْفِق كلّ ورقة يسلّمها إلى صاحبها بتعليقٍ صغير أو بطُرفة يستمدّها من إنشاء التّلميذ.
نادى أحدَنا، وكان يُذَيِّل فُرُوضَهُ بنفس الخاتمة التي حَفِظَها عن ظهر قلب، مُفادها أنّ التلميذ العربيّ يجب بالضّرورة أن يعود كلّ يومٍ إلى بيته فرِحًا مسْرُورًا، فكان يُودِعُها ورقته سواءً كانت المناسبة عُرسًا أو مأتما أو رحلة صيد ممتعة أو غَرق سفينة في عرض البحر... قال له: "ويْحَكَ يا بُنيّ، أتعود من جنازة جارك الطيّب فرِحًا مسرورًا... وأنت لا ترثُ منه شرعًا !"
يومها أنهى ما في يده من أوراق ولم يسلّمني امتحاني، وأنا معتقد أنّه يحتفظ به لمِسك الختام. عاد إلى مكتبه وجلس جلسة المنهك على كرسيّه، ثمّ جال ببصره في القسم وناداني باسمي لأن أتقدّم إليه، فتوجّست في الأمر خطرا، وسحبت نفسي إلى السّبورة في انتظار الحساب.
قال بصوت المعلّم الذي قضّى العام يصنع تلميذًا أو اثنين، على الأكثر، في كامل القسم، فيفاجأ بأنّ الحاصل غير مؤكّد :" أنت سَتَتْعَبُ كثيرا في دُنياك يا ولدي ما دُمت لا تعرف، ولم تحفظ بما لا يُسَاوِرُك الشكّ، بأنّ "النّظام" في العربية يحمل عصًا، فستعلم يوم تكبر أنّ مثل هذا السّهو لا يرحم".
لم أفهم يومها كلامه ثمّ جاءتني الأيّام بما أنبئتُ ولم أفقه. ومن يومها لم أعد أرتكب أيّ جناية على اللّغة في باب الظّاء والضّاد، فتراني أستبق إلى رسم العصا قبل أن أخطّ كلمات مثل : ظالم، وظلام، وظمأ، وصرت أجتهد في إيجاد قواعد منطقية لحذف الإشالة، في غياب القاعدة اللّغوية، فأرسم كلمة "ضرير" دون عصا لحاجة هذا الأخير إليها في يده وليس على ظهره، وكذلك في كلمة "ضابط" إذ تكفيه عصا الطّاء إشارة إلى مرتبته بينما تلزمه أخرى يخرجها عند الضّرورة وليست مسجّلة عليه رسمًا.
اليوم، وقد تجاوزت الخمسين من عمري، ما زلت أبحث عن علاقة لغتنا بتشكّل ذهيّنتا العربية في جمعها على المذكّر طالما هناك مذكّر واحد ولو اجتمعت معه ألف أنثى (وإن كُنّا في الأمر سواسية مع سائر اللّغات الأخرى)، وطالما أحالت لفظة "الشّرف" إلى معاني شتّى يجب البحث عنها في المساحة الفاصلة بين السّرة والركبتين عند الرجل، وعلى كامل جسد المرأة عدا الوجه والكفين في أفضل الاجتهادات الدينية-الأخلاقية استنارة وتفتّحا، وطالما ظلّ اللّه والمعتقد يحرسان جميع نواحي لغتنا وأبسط تعابيرها اليومية العادية الأوتوماتيكية بداية من "أسعد اللّه صباحك" للأحياء، و"رحم اللّه الفقيد" للأموات، ومرورا بركائز الحديث التي لا معنى لها أحيانا سوى إثبات هويّة نخاف عليها التّلف والاندثار في دنيا متغيّرة يذكّرك فيها مخاطبك بانتماء لا مفرّ منه كلّما قلت له مثلا : "غدا تطلع الشّمس" فيضيف، ملقّنا أو تلقائيًّا: "إن شاء اللّه!". وليس الأمر مجرّد بناء لغويّ لكلّ شعب له فيه شأن بحكم اختلاف الأجناس والمنشأ والثقافة، وإنّما هو حال معرفية صميمية أرّقت معارف الغرب الآخر فتعبوا في استنباط ما يُرضي ضمائرنا وبِتْرُودُولاَرِنا، ولو كان في ذلك تَرَفٌ معرفي.
فيوم أرسلت السّعودية إلى الفضاء رجلا من أهلها ليتقاسم السّفينة مع أمثاله من العلماء، اشترطت صناعة بوصلة خاصّة تشير إلى قِبلة الصّلاة في ظلّ انعدام الجاذبية، رغم أنّه القائل "أينما تُوَلُّيتم فَثَمَّ وَجْهُ اللّه". وبينما كان علماؤهم، غير المسلمين، يبتكرون ما يُرضي عقيدتنا داخل الفراغ الفيزيائي، كان "علماؤنا" المسلمون يتجادلون لإيجاد فتوى في طريقة الصّلاة لمسلم لا يستقرّ على حال داخل نفس هذا الفراغ الفيزيائي.
وقد يطول قاموس النّكات في أحوالنا الذي قد تُؤخذ في ظاهرها ظَرفا ومَلاحة لولا المآسي التي ينطوي عليها باطنها. فهي، للأسف، ليست مجرّد مُلَحٍ.
لست أدري إن كانت توجد على وجه البسيطة لغة سكنها اللّه بقدر ما سكن العربية، وإن ثمّة لغة أخرى نشأت، كما العربية، مع نشوء وتطوّر اللّغة في حياة البشر والشّعوب، فاختارها الخالق ليتحدّث بها مباشرة إلى قومه: "إنّا سنلقي عليك قولاً ثقيلاً". وكان الرّسول يقول: "مَا مِنْ كلامٍ أعظمَ عند الله من كلامه ، وماردَّ العبادُ إلى الله كلاماً أحبَّ إليه من كلامه".
يقول محمود المسعدي في مقدّمته للـ"قاموس الجديد الألفبائي": "وإنِّي لا أَعْرِفُ لُغَةً قاسَتْ ما قَاسَتْهُ الْعَربيّة من عُقُوقِ أهلِهَا بِهَا، بالرّغم عن أنّهم – أو قُلْ من أجل أنّهم، لِفَرْطِ حُبِّهم لها- وإنَّ بعضَ الحبِّ لبَلِيَّة- قد نَزَّلُوهَا مَنْزِلَةَ "قُدُسِيَّةً" ليست من طبعِها ولاَ لها طاقَةٌ بها. فقد أرادها بعضهم في القديم "كائنًا أزلِيًّا" ولم يَتَحَاشَوْا في نِسْبَتِهَا إِلَى اللَّهِ وغَالَوْا في ذلك حتّى تخاصموا في قِدَمِ القرآن وخَلْقِهِ خُصُومَةً أَزَرَتْ في عهدِهَا بعلماءَ جِلَّةٍ أَعْلاَمٍ".
فإذا اعتبرنا اللّغة على أنّها أكثر من أداة تخاطب وتواصل وإنّما هي أيضا، وخاصّة، الوعاء الذّهني الذي تَتَهَيْكَلُ ضمنه شخصية الفرد والجماعة وتتشكَّل معه شبكة القيم والسلوكيات والنّظرة إلى الحياة للنّاطقين بها، في حدود اللاّمساس بها أو في حدود التّعامل معها ككائن حيّ قابل للتّطوّر والمساءلة، فماذا يكون مدى الدّمار الّذي ألحقه عقوق أهل العربية بها؟
هذه الإشكالية الكبرى للغتنا كـ"نظام ذهنيّ"، لم نفتح بعد ملفّاتها، خارج دوائر الاختصاص الضيقة جدّا، ولم نقف بعد على جميع تبعاتها لندرك سلطة الكلمة على رقابنا عندما تتهيأ على هيئة الوعظ الدّيني والأخلاقي وأثره على النّفوس والعقول وهو ينطق بلغة مقدّسة تقوم على ثنائية الحرام والحلال، والمنكر والمباح، والحقّ والباطل، والخير والشرّ، والأنثى والذّكر...
كلّما شاهدت في الفضائيات العربية الشرقية، خاصّة، حوارا هو أشبه بالمبارزة بالسيف لخلط في الأذهان بين الجدل والجندلة، وبين أدبيات الحوار وفروسية البلاغة والإفحام، إلاّ وخرج الأزهريّ منتصرا على العَلمانيّ، والجهاديّ قاهرا للأزهريّ، ومنشّط الحصّة مغتبطا لاعتقاده بأنّه فسح المجال للدّيمقراطية التي تُفهم على أنّها معركة ضارية ساخنة في علم الكلام والفصاحة. وفي مثل هذه الأوضاع نكتشف مدى ضراوة اللّغة العربيّة وفنون الخطابة والتّبليغ كسلاح في أيدي مالكيها، سيما إذا ما اعتمد كلاسيكية تراكيبها، ودينية مراجعها، وفقه استدلالاتها وحججها. يخال المشاهد أنّ طرفا يقف في صفّ اللّه لِكَرْعٍ فصيح من قاموسه ومفرداته وآياته وإعجازه بينما يظلّ العلماني يتيما داخل عقله الإنساني النّسبي وبحثه عن ألفاظ، وكلمات، وتشابيه، وصور لا تُسعفه بها كثيرا اللّغة العربية لتعوّدها على نطق المقدّس أكثر من استنطاق المدنّس. كما أنّ الفارق يكمن في منهجية هذا وذاك، فالأزهريّ مثلا مزوّد بمنطق متماسك من داخله شيدته الحقب والعصور وفيض الأدبيات الدينية الفقهية ومنحته نسبته إلى اللّه قوّة الحجّة الإلهية المتوارثة السّهلة النّفاذ إلى الأذهان والنّفوس لأنّها توقظ فينا ما تمثّلناه طيلة حياتنا وجميع ما اختزنته ذاكرتنا وطبقات لا وعينا من قرآنيات، في معانيها، وترتيلها، ووقعها، وموسيقاها، بينما يتعثّر الآخر في لغته وبيانه، لأنّه يجهد، في الآن ذاته، في تطويع اللّغة إلى ما لم تستأنسه العقول، ويتوخّى منهجية تقوم على الشكّ والبحث والنسبية البشرية.
ولعلّ في ذلك يكمن إحد أوجه مأساة الحال في أوضاع القوى التقدّمية الحداثية التي تقف عاجزة أمام الزّحف الدّيني بمختلف تنويعاته السلفيّة والجهاديّة والسنية والشيعيّة وغيرها. ولا أودّ أن أغامر كثيرا بالقول، لقناعة في داخلي ما زالت مبهمة المعالم، أنّه قلّ أن شاهدنا في تاريخ الشعوب والأمم لغة تختار صفّها إلى جانب فريق ضدّ آخر، أو قُلْ أنّه يندر أن فَهِم دينٌ، كما فهم الإسلام، سلطة الكلمة والحرف فأسكن اللّهَ فيها من ألفها إلى يائها، وأسكن شيئا من القداسة والألوهية في كلّ من نطق بها، فبدأها بـ"باسم اللّه".
طبيعيّ إذن أن نرى الشعوب المسلمة غير النّاطقة بالعربية تعيش وجدانياتها وطقوسها وصلواتها وإيمانها بلغة الضّاد، وأن يرفض الفقهاء ترجمة القرآن ترتيلاً وتجويدًا وقراءة إلى لغات الشعوب المؤمنة به من غير العرب، حتّى ولو صلّت بها لفظا أعجميّا مُبهما. وطبيعي أن يقف النحويون واللّغويّون والمعجميّون لحراسة مناطق اللاّمساس في لغة قد يترتّب عن مسّها مسًّا بالمقدّس والدّين، ومن ورائه مسّا بمناطق نفوذ وحيِّزِ سلطة تمنح للضّالع فيها، كشرط أوّليٍّ إلى جانب شروط أخرى، حقّ الإفتاء وإقرار ما يصلح ولا يصلح للعباد تجاوزا لكلّ قانون وضعي بشري نسبي.
وطبيعي أيضا أن يكون الشّعب الجزائري، لأسباب تاريخية خاصّة، من أكثر الشّعوب التي دفعت ضريبة الدّم في معركة اللّغة في أواخر القرن العشرين، بعد أن دفعتها زمن الاستعمار منذ منتصف القرن التّاسع عشر. فيكاد لا يختلف اثنان من محلّلي الأوضاع في هذا البلد على أنّ أحد أسباب الدّمار بدأ يوم أعلن "بومدين" عن تعريب، أراده لغويّا، فإذا باللّغة العربية تحمل معها جحافل المدرّسين المورّدين من مصر والشّرق ، حمّالين للغة تحمل في جعابها فقها ومعتقدا وخرافات وأساطير كما يحمل المتطبّب "الرّعواني" تعاويذه ورُقياه وأحجيته لمداواة جسد أنهكه انفصام الشّخصية وداء الهويّة ولم ينفع فيه عقار الغرب والحداثة.
والحديث عن لغتنا العربية ذو شعاب لا تنتهي، إلاّ أنّ المحيّر في الأمر أنه لا شعب منها لا يُفضي بالضّرورة إلى الدّين ولا يُحيلُ حتمًا إلى المقدّس من كياننا إضافة إلى ما تحمله الفصحى من عناصر سلطة وتسلّط ومن حكم على غير الضّالع فيها بأنّه ظليع (أي ناقص ظلع) فيجد نفسه في وضع دونيّ لا يخوّل له المشاركة في سلطة قرار تتكلّم بلغة سيبويه .
كان أبي كلّما أدخل سيارته إلى حديقة المنزل إلاّ وترك في جوانبها جرحا، فقرّرنا توسيع المدخل وجلبتُ عامل بناء للغرض. ومن طبع والدي أنّه يكاد يكون عاجزا على التّفوّه بكلام غير مضمّن بنكتة، أو تلاعب بالألفاظ، أو استنباط وضعيات تلج الضّحكة منها من داخل مفارقة الوضعية، كأن يطلب من "عطّار" الحيّ أن يتعرّف على نفسه في لفظة "حانوتي" التي يناديه بها مع إفهامه أنّ العطّار لا ترد في القاموس بمعنى بيع الشّاي والسكّر أو اليوغرط والبشكوتو. يومها خرج صباحا فوجد البنّاء يشتغل فحيّاه كأحسن ما تكون التحيّة وقدّم له نصيحة ثمّ ذهب في حال سبيله، ولمّا عاد إلى البيت عند الزّوال وجد ماعون العامل ولم يجد العامل وقد بدأ في تكسير الأعمدة ولم ينه شغله. تلك روايته لما حدث.
يوم قابلت البنّاء بعد أيّام لاستقصاء الأمر، بادرني بالعتاب للزّج به في ورطة وهو ماكاد يتخلّص من أخرى سابقة. فيوم طلبته لم يكد ينقضي على خروجه من السّجن سوى بضعة أشهر بسبب خصومة لم يف فيها الكلام بأغراضه فاستُعيض عنه باللّكم والسّلاح الأبيض. ولازال يرنّ في أُذنه وقع الكلمات الثقيلة التي نطق بها الحاكم بعربية فصيحة، لا تحتمل الشكّ ولا تتطلّب الفهم، مُفادها وعاقبتها أشهرٌ من السّجن وتحذيرٌ من مغبّة العودة إلى مثل هذا الصّنيع. عاتبني لعدم إعلامه بأنّ أبي حاكم، وحتّى عندما أعلمته بأنّه ليس كذلك بل هو أديب وكاتب، قال إنّ كلامه كلام حاكم.
كان لا بدّ من حلّ اللّغز فطلبت من أبي أن يعيد عليّ ما قاله حرفيّا لصاحبنا. أجابني بلهجة الذي لا يفهم سبب هذه الضجّة: قلت له أسعد اللّه صباحك يابُنيّ، ثمّ أوصيته بأن يراعي الموازاة بين العمودين حتّى لا نقع فيما لا يُحمد عُقباه !
يقول عياض بن عاشور في إحدى مقالاته[1] "...إن وضعنا اللغوي، إضافة إلى ما يتّسم به من عرقلة للديمقراطية، فإنّه يحول دون حرية التعبير وسهولة التخاطب والاتصال بين السلطة السياسية وقسم كبير من المواطنين. ففي المجالس البرلمانية والمنابر السياسية والاحتفالات الرسمية، كثيرا ما يتحول الكلام إلى قراءة، لأنه لا أحد باستطاعته "التحدث" بالعربية الفصحى. وهذا ما يُضفي على لغتنا السياسيّة خصائص لغة الخشب. ولذلك فإنه لا يستغرب أن يضيق هامش الحرية في مثل هذا السّياق. فعندما تحلّ التّلاوة محل الحديث، تصبح السّياسة نوعا من القفص يحد من حركة كل من يدخله. وهذا ما يفسر النّبرة الخطابيّة التقريرية لنوّابنا في البرلمان، ومقدّمي برامجنا التلفزيونية، وقادتنا وسياسيّينا. وبما أن هؤلاء لا يتكلمون وإنما يقرؤون، فإن خطبهم كثيرا ما تمرّ دون أن تثير انتباه قسم كبير من مواطنيهم. وهكذا يؤدي أو يفضح الخوفُ من التكلم الخوفَ من التفكير. ولأن كياننا السياسي كيان مريض، فإننا لا نكف عن التغنّي بمرجعياتنا وهوياتنا الفعلية والوهمية..."
ويذهب الجزائري محمد بن رابح [2] في نفس الاتّجاه من حيث قضية اللّغة العربية في رمزيتها إلى الهوية الوطنية الدينية وفي وظيفتها الإقصائية، يقول " في شهر ماي من عام 2001، توجّه رئيس الجزائر بخطاب إلى الشّعب الجزائري من خلال وسائط الإعلام القومية، باللّغة الكلاسيكية (الفصحى). علما بأنّ محور مداخلته كان يدور حول "الأحداث" الخطيرة التي جدّت بمنطقة القبائل. وكان في الامتعاض الذي أبداه عدد من المستمعين أكثر من معنى لعدم ملاءمة اللّغة المختارة مع الأزمة المعيشة، وفيه أكثر من إشارة إلى المحتوى "القومي" لخطاب أراد أن يكون وطنيّا. فاختيار اللّغة (الفصحى) لَأَمْرٌ مدهش سيما أنّه يعني اختيارا لنوع المستمعين وإقصاء لآخرين. فمن وجهة النّظر البيداغوجية لا يمكن القول أنّ السيد بوتفليقة قد توجّه إلى مواطني الجزائر بل إلى جزء منهم فقط: أولئك الذين يفهمون العربية الكلاسيكية المنتقاة. أمّا من وجهة نظر بسيكولوجية فحتّى البعض ممّن يفهمون هذه العربية الخاصّة قد شعروا بأنفسهم مقصيّين أو مُهانين وأعني منهم البرابرة الذين يُناضلون منذ سنوات من أجل الاعتراف الرّسمي باللّغة البربرية في البلاد".
تلك هي بعض إشكاليات لغتنا العربية حاولت الإشارة إليها، دون منهجية واضحة، لتداخلها وتشابكها رغم اختلاف مستوياتها، ولا أعتقد أنّ واحدا منّا لم يصطدم يوما بأحد أوجه الفاجعة في لقائه بالعربية الفصحى بداية من مقاعد المدرسة. وهي تمثّل اليوم، كما ذكرت، إحدى ميادين المعركة الحقيقية في وجه التيار الديني الزّاحف وإحدى محاور المعركة الثقافية الحضارية الحداثية وأحد رهانات الديموقراطية. وبقدر ما نقف على أهميّة البحوث والدّراسات والتحاليل وسبر أغوار المجتمع والذّهنية الجماعية بلغات أجنبية يمتلكها مثقّفونا من أصل عربي بقدر ما تبدو الكتابة بالعربية أقلّ ثراء وقيمة، عدا بعض الاستثناءات، والأمر يُفسّر طبعا بما يتيحه فضاء هذه اللّغات الأجنبية من حرية تنقّل للأفكار ومساحات ثراء لشتّى أنواع المعارف في العلوم الصحيحة والعلوم الإنسانية وجدلية انتفاع الواحد من الآخر القائمة بينها، وكذلك استعصاء نفاذ هذه العلوم من خلال اللّغة العربية، لا لعلّة فيها، بل لمتاريس الحراسة القائمة على أبوابها. فاللّغة كائن حيّ يتّسع ويضيق مداها بقدر اتّساع وضيق ذهنية الشعوب القائمة بها ووزر السّلط السياسية والدينية القائمة على هذه الشعوب.
وأكتفي عند هذا الحدّ وما تراني سوى أضفت شغلا آخر وهاجسا إضافيا إلى قائمة أولوياتنا في اللاّئحة الطويلة لمشاغل الحداثيين داخل أوطاننا المحتاجة إلى الفعل حتّى في لغتها كمدخل للفعل في ذهنيّتها والعكس صحيح .
هناك 3 تعليقات:
http://www.dailymotion.com/video/x125dz_la-bete-noire-part-1
@ anonyme
Merci beaucoup pour l'adresse du documentaire. Il est vraiment tres interessant...
Pour des commodités de clavier je vous écris mon commentaire en français .Vous avez visé dans le mille la langue arabe est la seule langue vivante qui n'a aucun dictionnaire étymologique dédié elle n à pas non plus évidemment aucun dictionnaire historique.La raison que vous avez évoqué est qu'il s'agit pour ses chiens de garde d'une langue primordialeoriginelle Dieu parle en Arabe .On vit dans cette fiction depuis 15 siècles bien que tout le monde sait que le coran est truffe de mots persans grecs hébreux assyriens etc...Le combat actuel est de dissocier la langue comme élément patrimonial et culturel indéniablement ses instrumentalisations religieuses politico ancrées dans les esprits et les pratiques
إرسال تعليق