الجمعة، 6 فبراير 2009

قصة قصيرة




"بييييييييييييييييييييييييبب"

" يا بهييييييييييييييييييييييم، حلّ عينيك"

إبتسم وهو يتفادى بصعوبة السيّارة التي كال له صاحبها سيلا من السباب. واصل قطع الطريق و هو يحاذر و يتفادى العربات الكثيرة في الشارع.

"لقد تغيرت البلاد كثيرا، و لكن نحو الأحسن على ما أظن..." تمتم بهذه العبارات واضعا يديه على أذنيه فهو لم يعتد بعد كل هذا الضجيج وهو الذي قضّى ما يزيد على ربع قرن متنقلا بين السجون التونسية، و في السجن الإنفرادي في أغلب الأحيان، ليحط به الركب منذ بضع سنوات هنا بالسجن المدني بقفصة.

شعر بقليل من النعاس وهو يتذكر، منذ أسبوع، كيف أخبره سجّانوه أن سيكون حرّا بعد أيام.... لقد مرت ذلك الأسبوع أطول من كل محكوميته، لم يكن يستطيع أن ينام أكثر من بضع سويعات، كان مشتاقا لرؤية الناس و البلاد و خاصة أخته الوحيدة التي لو يراها منذ سنة أو أكثر، هو لا يلومها فلها عائلتها و أطفالها الآن، و أكيد أن ضروفها هي التي منعتها من زيارته. لقد مرّت البلاد بأحداث و أحداث وهو كان لا يتلقى الأخبار سوى من سجّانيه و بعض الرفاق القدامى الذين كانوا يزورنه أحيانا... تذكر أيضا كيف وعده محاميه منذ عشرون سنة أنه سيكون حرّا قريبا بعد التغيير/الإنقلاب الذي وقع في البلاد... كم عاش على ذلك الأمل و لكنه في الأخير رضخ لمشيأة خالقه خاصة وأنه لم يكن ممن راهنو على هكذا تغيير فالحاكم "الجديد" كان إبن النظام القديم و بل و أكثر كان أحد المسؤولين الأمنيين المسؤولين على إيقافه و تعذيبه هو.

فاق من تأملاته على وقع حركة غير عادية: عدد كبير من رجال الشرطة، جمع غفير من الناس محاط بقوّات مكافحة الشغب... رفع رأسه متأملاّ المكان، شعر أن عيناه تألفان هذا المكان.... أطلق شهقة عميقة وهو يسترجع ذكريات أخرى، لقد قادته قدماه إلى محكمة الإستئناف بقفصة... لا زالت ذكرى محاكمته ماثلة أمام عينيه كأنها أمس، يوم بكت أمه بعد أن نطق ذلك القاضي الفاسد بالحكم ثم زغردت وهي تقول له "عل أقل ولدي ما سرقش و ما قتلش، دخل راجل و بش يخرج راجل مالحبس"... كل ما يتذكر كلماتها يشعر ببعض من راحة الضمير فقد ماتت و لم يرها بل رفضوا حتّى مطلبه بحضور دفنها. "أولاد القـ*******" تمتم بهذه الكلمات دون أن يشعر، أحس برغبة في البكاء وهو يتذكر أمه، كانت الأم و الأب و الأخ و الصديق، تذكرّ كيف كانت تضحك عليه عندما كان يحدثها عن حتمية وحدة أمة العرب، عن الصراع الطبقي، عن الإشتراكية من وجهة نظر ماركس، ثم عن الإشتراكية العربية، كان يحدثها أيضا عن المادية الجدلية و عن جدل الإنسان لعصمت سيف الدولة، عن عبد الناصر، عن لينين... كانت دائما تسمعه للآخر ثم تقول له ضاحكة "ما فهمت شي يا وليدي، نعرفك تحب تونس و تحب فلسطين، هذاكا المهم، غير رد بالك على روحك" ثم تقبله و تمضي لحالها...

أخذته الذكرايات بعيدا مرة أخرى، إلى رفاقه في التنظيم الذي كان منتميا إليه، لم يكن تنظيما بمفهومه الحزبي، كانو فقط مجموعة من الشباب الذين عاهدو الله و الوطن على العمل من أجل تقدم و النهوض ببلدهم و من أجل وحدة أمتهم. كانت أحلامهم كبيرة ولكنهم كانو يروها قابلة للتحقيق، كم يحن إلى تلك الأيام و خاصة إلى رفيقه صــابر. كانا لا يفترقان، يتقاسمان نفس الغرفة في المبيت ، كانا متلاصقان دائما في المسيرات، حتى في حلقات النقاش مع الأطراف السياسية الأخرى كانا متكاملان، فما أن يسكت الأول حتى ينطق الثاني.

تذكر آخر مرة رآه، كان ذلك يوم القبض عليه، كان معا في المسيرات التي عمت البلاد إحتجاجا على زيارة وزير الخارجية الأمريكي، أرادوها مسيرة سلمية تعبيرا عن إحتجاجهم لمساندة الولايات المتحدة للكيان الصهيوني و ضد ما تقوم به ضد الشعب الأعزل في الفيتنام، و لكن ما إن بدأت المسيرة أمام المسرح البلدي في العاصمة حتّى هاجمتهم قوى البوليس بوحشية لا تضاهى، لقد إستعملو الكلاب المدربة و مدرعات المياه السّاخنة... أثناء تراجعهم لزقاق جانبي في العاصمة، هجم أحد أفراد البوليس على صابر و أطلق عليه كلبه ينهش في ساقيه، فلم يألف نفسه إلا وهو يهاجم الكلب و البوليس معا ليساعد صديقه على الهرب. نجح في ذلك و لكن أثناء هربهم لحقت بهم الشرطة مرة أخرى فطلب من صابر أن يختبأ لأنه غير قادر على الركض بعد العضّ الذي ناله من الكلب، واصل هو ركضه وحيدا و نجح أن يبعد البوليس عن صديقه و لكنهم أمسكو به و أوقفوه.

كم تعرضّ للضرب و التعذيب من أجل أن يعترف بتهم لم يقترفها، أرادو معرفة إسم صابر و لكنه له لم ينطق بحرف. لا يدري إن كان لسوء أم لحسن حظه أنه كان يحمل معه في لحظة إيقافه بعض كتب الفلسفة و الشعر، صادروها على أنها منشورات، يوم المحاكمة إعتبروها دليلا ضدّه.. إتهموه "بارتكاب جرائم الانخراط في عصابة والمشاركة في وفاق وقع بقصد تحضير ارتكاب اعتداء على الاشخاص والأملاك والمشاركة في عصيان صادر عن أكثر من عشرة افراد وقع بالسلاح وتم اثناءه الاعتداء على موظف أثناء مباشرته لوظيفته وتعطيل الجولان بالسبل العمومية والمشاركة في عصيان دعي اليه بخطب ألقيت بمحلات عمومية واجتماعات عامة ومعلقات واعلانات ومطبوعات والاضرار عمدا بملك الغير وصنع وحيازة آلات ومواعين محرقة ورمي مواد صلبة على املاك الغير واحداث الهرج والتشويش بمكان عام وتوزيع وبيع وعرض ومسك بنية الترويح لنشرات من شأنها تعكير صفو النظام العام لغرض دعائي وجمع تبرعات دون رخصة واعداد محل لاجتماع اعضاء عصابة مفسدين واعانتهم بالمال وجمع التبرعات بدون رخصة (*)" ، تهم تحمل صاحبها إلى حبل المشنقة في أشد الدول ديمقراطية فكيف بدولة بوليسية مثل بلاده. سأل عن صابر بعد إيقافه و لكن محاميه قال له أن صابر تغير كثيرا منذ أن سجنت، كان ينتظر أن يأتي لزيارته في السجن على الأقل و لكنه لم يره و لا حتى في يوم محاكمته.

إستيقيظ من ذكرايته على دفع الناس له، وجد نفسه دون أن يدري داخل قاعة المحكمة، لقد قادته قدماه إلى هنا دون قصد، فكر أن يخرج فهو يكره هذا المكان و لكن الحركة غير العادية للناس و العدد الكبير للبوليس أثارا فضوله لمعرفة ما يحدث، أخذ يسترق السمع للناس من حوله ففهم أنها إستئناف للقضية التي تعرف بقضية الحوض المنجمي. لقد سمع بهذه الأحداث أثناء سجنه، قال له أحد سجّانيه وهو من أبناء المنطقة أن الناس ثارت ضد الرشوة و المحسوبية و من أجل حقهم في الشغل و أنّ القطرة التي أفاضت الكأس كانت الإعلان عن نتائج مناظرة للشغل تم التلاعب بنتائجها. شعر بالحنق، التاريخ يعيد نفسه و في شكل مهزله هذه المرة، لقد سمع أن التهم الموجة للموقوفين هي نفسها التي وجهت له منذ ربع قرن و نيف. "أكيد أنهم عيّنو قاضيا فاسدا مرةّ أخرى" تمتم بهذه العبارات وهو يستعد للخروج... "إنتباه، محكمة، وقوف للقاضي" رفع رأسه على وقع كلمات الحاجب يدعو الناس لسماع الحكم.. بيما كان القاضي يرتّل الأحكام القاسية التي أصدرها ضدّ شعبه، كان هو يحملق بالقاضي مرتعشا و الدموع تنهمر من عينيه، تلقفه الناس وهو يسقط على الأرض متمتما "القاضي راهو صابر"، "القاضي راهو صابر"، "القاضي راهو صابر".....


(*) التهم المكتوبة أعلاه هي التهم التي لفقت للمتهمين في قضية الحوض المنجمي


ملاحظة: هذه القصة من وحي الخيال و أي تشابه في الأحداث مع الحقيقة هو من محض الصدفة. هي مهداة إلى صديقي و أخي و رفيقي الحفناوي بن عثمان، المحاكم بسنتين و شهر سجنا في قضية الزور بالحوض المنجمي بقفصة، لمن لا يعرف الحفناوي أقول له انه أحد أبناء الرديف، أستاذ متخرج من كلية الآداب برقّادة، مناضل و نقابي قومي ناصري، لا يسكت على الظلم. لعل أحد أوجه التشابه بين ما كتبته و الحقيقة أن والد صديقي توفاه الأجل يوم محاكمة إبنه الإبتدائية و لم يسمحوا للحفناوي حتّى بحضور الدفن، رحمه الله، مات حزنا على ولده و لكنه كان فخورا به.

هناك 9 تعليقات:

Bel Malwene يقول...
أزال المؤلف هذا التعليق.
Bel Malwene يقول...

Sans commentaires !!! Chapeaux bas monsieur

Dovitch يقول...

Bravo

WALLADA يقول...

غبت غبت و رجعت من الباب الكبير بنصّ كبير

برافو

Gouverneur de Normalland يقول...

قشعرلتلي بدني يا شنفرة


برافوا

غير معرف يقول...

!Bravo pour ce beau texte

chanfara يقول...

@Belmelwene et Dovich

Merci pour votre encouragement. C'est juste un petit essai :)

@ولاّدة

عيشك، هي فقط محاولة... هيا كي عجبــاتك بش نعاود ناخو كونجي طويل آخر

:)

@Gouverneur

شكرا سيدي الرئيس.. لن أضاهيك أبدا في فن القصة ;)

@Nomade

Merci pour ton encouragement, tout le plaisir est moi que tu sois passer par mon blog

Adem Salhi يقول...

برافو
هانا اكتشفنا فيك موهبة جديدة.
اما رانا الكلنا صابر يا صاحبي

misanthrope repenti يقول...

J’ai passé par votre blog que j’ai trouver fort intéressent je me permis de laisser un petit commentaire , en effet j’était très touché par ce récit poignant qui est le lot malheureusement pour tout les intellectuelles arabes ,tout ceux qui osent sortir des sentiers battus , qui dénoncent le mal ,qui ont encore une conscience libre ,immaculée , pas encore souillée par la culture de la rente et le « Bendir » ,de l’islamisme simpliste et ces prêt-à-penser ………………..combien d’homme libres ont péris dans les geôles pour un mot de vérité qui l’ont dit , ou bien parce qu’ils étaient dans le mauvais endroit au mauvais moment ,combien de pleures et de gémissements d’une mère pour son fils ,nous ignorons ,combien , combien ……………………………………… ? vous êtes le bienvenu sur mon blog , bonne continuation .