زرنا تونس الشقيقة لأيام قلائل خلال الأسبوع المنصرم، في مهمة عمل عربية، فكانت فرصة ثمينة لتحصيل مزيد من المعرفة بهذا البلد العربي العريق، موطن دول عربية إسلامية ذات شأن أي شأن في تاريخنا الحضاري، كدولة الأدارسة، وفيها لمعت (النجوم الزاهرة) في ثقافتنا التليدة، وخاصة من حول جامع وجامعة القيروان، وجامع وجامعة الزيتونة، جنبا إلى جنب جامع وجامعة القرويين في مدينة (فاس) بالمغرب، وجامع وجامعة الأزهر بالقاهرة في مصر المحروسة. وقل مثل ذلك عن جوامع الأندلس في قرطبة وأشبيلية وغرناطة، والجامع الأموي في دمشق الفيحاء، وجوامع العراق(الأسير) من الكوفة إلى النجف الأشرف. ولتونس أيضا روابط دم وشيجة مع مصر من خلال "الدولة الفاطمية" (وتشكل تونس مع ليبيا ما يعرف تاريخيا بالمغرب الأدنى)، كما هي مع المغرب الأوسط (الجزائر) والمغرب الأقصى. ولكن لتونس وضعية خاصة في سياق هذه الوشيجة، فقد أتت الهجرات الهلالية الكبرى من الجانب الشرقي لشبه الجزيرة العربية إلى مصر في عهد الخليفة الفاطمي (المستنصر) وما لبثت أن وُجهت فيما يلي مصر مغربيا، حيث توقفت مليا في تونس، يتزعمها (أبو زيد)، قبل أن تستأنف المسير إلى الجزائر الحالية. ولكن الفن الشعبي العربي جعل للهلالية مركزا ثنائيا من (مصر – تونس)، وقام بتوثيقه في السنين الأخيرة فناننا العربي الشعبي عبد الرحمن الأبنودي، والذي قام أيضا بتوثيق رحلة و"حكاية" (ابن عروس) بين تونس وصعيد مصر. ثم أن تونس الحديثة رافقت مصر العربية الحديثة أيضا في مسيرة النهضة الثقافية والسياسية في القرن التاسع عشر، فكان (خير الدين التونسي) وكتابه (أقوم المسالك في تاريخ الممالك) قرينا لرفاعة رافع الطهطاوي في كتابه (تخليص الإبريز في تلخيص باريس). ولما أخذت شعلة التجديد الفكري والديني تنبثق شرارتها من مصر أوائل القرن العشرين، منذ محمد عبده فطه حسين؛ كان الأثر قويا في تونس، مما انعكس في تاريخ الثقافة التونسية، بشقها التقليدي من خلال الشيخ عبد العزيز الثعالبي، والشق العصري من خلال (الحزب الدستوري القديم). ورفدت تونس مصر الكنانة ببعض من أبرز رموزها الثقافية والفكرية ممثلة في الشاعر بيرم التونسي- رائد الشعر الشعبي العربي المصري المعاصر من بعد عبد الله النديم، ومن قبل فؤاد حداد ورباعيات صلاح جاهين؛ وممثلة أيضا في شيخ الأزهر، العربي التونسي، محمد الخضر حسين. ولا ننسى أن زعماء الحركة الوطنية في الدول المغاربية قد درسوا وعملوا وبدأوا النضال في مصر والقاهرة، مثل بورقيبة وهواري بومدين وعبد الكريم الخطابي، وذلك من خلال (مكتب المغرب العربي) في أحضان الجامعة العربية أوائل الخمسينات. ولما قامت ثورة يوليو بزعامة جمال عبد الناصر، قدمت دعمها المطلق لحركة التحرر الوطني في دول المغرب العربي، وكان من ذلك، دعم الحركة الوطنية التونسية (أحمد بن صالح والحبيب بورقيبة)، والثورة الجزائرية، والوقوف إلى جانب الشعب المغربي في صموده وكفاحه إبان نفي فرنسا للملك محمد الخامس، وما بعده، ثم دعم ثورة الفاتح من سبتمبر في ليبيا منذ اللحظة الأولى لقيامها. وقد حضر جمال عبد الناصر احتفال الشعب التونسي بالجلاء عن قاعدة بنزرت عام 1959، وأقام على عهده –عهد الوفاء، للشعب العربي في تونس وجميع المغرب- رغم تقلبات السياسة (الشخصانية) للحبيب بورقيبة، ونزعته (التغريبية). وعلى ذكر النزعة التغريبية فقد لاحظتُ مفارقة: إن الشعب العربي في تونس لا يتكلم في حياته اليومية بغير اللهجة العربية الدارجة التونسية، ولا يدخل فيها إلا القليل من المفردات الفرنسية. وربما أن شريحة ضيقة من (النخبة العليا) تدخل نسبة أعلى من المفردات الأجنبية في لهجتها العربية، ولكن الشعب في عمومه لا يفعل ذلك. هذا كله بينما أن الإدارة العمومية وإدارة المشاريع، وبعض المخاطبات الرسمية للجمهور، تتم باللغة الأجنبية. بل و(الطامّة الكبرى) أن التعليم العالي كله يتم بهذه اللغة الأجنبية، بما في ذلك العلوم الإنسانية (عدا الأدب العربي، بالطبع، وشطر من القانون)، ومن ذلك علم الاقتصاد. وذكر لي زميلي الأستاذ في "الجامعة التونسية – المنار"، بكلية الاقتصاد وعلوم التصرف، أنه لا يتم تدريس أي مقرر من العلوم الاقتصادية على الإطلاق باللغة العربية. هذا برغم أن علم الاقتصاد معرب في كل الدول العربية. ولشدة سعادتي، فإن كل العلوم الإنسانية في الجزائر معربة تعريبا كاملا؛ وأشهد أن الحال كانت على ذلك مُذْ قمت بالعمل كأستاذ في جامعات الجزائر أواسط الثمانينات، في مدينة (باتنه) المجاهدة، وفي (عَنّابة) الجميلة. وإنه ليعزّ علينا أن يطرح سؤال الهوية على هذا النحو الحاد في تونس العربية الشقيقة، التي لن ننسى- ما حيينا- مرابعها "البيضاء-الزرقاء"، على البحر المتوسط، في (سيدي بوسْعيد) و(المرسَى) و(قرطاج) و (قمَرْت) و(حلق الوادي) و (الكرم) و (البحيرة)، وفي تونسالعاصمة نفسها: بالمنْزَه السادس والمنزه التاسع وحدائق البلفدير، وغيرها كثير..!.
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
هناك 3 تعليقات:
يا الشنفرة السيد عمل زوز أخطاء من المفروض يثبت فيهم قبل ما يكتب، و هذية مشكلة مع الكتاب المشارقة كي يكتبو على تونس أنهم يستسهلو الموضوع و يتبناو أفكار عامة و فيها شوية بحث جدي
أولا "موطن دولة الأدارسة" ماهياش تونس و إنما المغرب و تحديدا مدينة فاس... هذية معلومة كان ينجم يثبتها في قوقل مش حتى في الكتاب المدرسي إلي قرى فيه التاريخ
ثانيا مش صحيح إلي "التعليم العالي كله يتم تدريسه باللغات الأجنبية"... كلام فارغ... مش على خاطر صاحبو قالو إلي الاقتصاد يتم تدريسو باللغات الأجنبية معناها "كل" شي باللغات الأجنبية و خاصة العلوم الإنسانية: التاريخ، الجغرافيا علم الاجتماع ... الخ شطرها و إلا حتى غالبيتها بالعربية... زيد الحقوق و العلوم السياسية جزء كبير بالعربية
و الله عيب عيب . ما يخرجش على أي إنسان يدعي أنه مثقف و متعلم أنه ياتي بشبه هالمقالات السطحية مهما كانت" الوشائج" اللي تربطه بها البلاد. صراحة المفروض صاحب المقال أو صاحب المدونة يسحب هالنص هذا حتى لا يساهم في نشر أشياء غير صحيحة و لا قيمة لها. و أنا آسف جدا على تعليقي هذا و إذا كنت صريح و ما عجبش كلامي هذا يتفضل الصديق بسحبه و محوه من التعاليق.
أزواو: خونا الشنفرة ناس ملاح و نورموقراطي(غلط مرة بركة بما أنو قائد إنقلاب سابق في البلاد النورمالية) و ما فماش علاش بش تتوقع أنو ينحيلك التعليق متاعك.... بالنسبة للمقال يظهرلي مهم أنو نعرفو شنوة يكتبو المشارقة سواء كتبو بالطريقة السطحية هذية و إلا غيرها... ربما كان من الضروري التعليق عليه أو تقديمو... أنا في رايي مشكل الهوية مطروح حتى في مصر... و من الطبيعي مناقشتو في تونس... و ربما من المداخل لمناقشتو هو تجاوز الرؤى المتوسطة كيف المطروحة في المقال هذاية... و محاولة التعمق أكثر في الموضوع
إرسال تعليق